* رداً على مقال كوثر الأربش: (بين الإمام الحسين ويزيد.. وتناقضات الخطاب الشيعي)..
محمد جواد المسلم
كالبنات الصغار حينما يقلدن النساء الكبار في تمثيلية "الأم والخالة" ويبدأن بممارسة طقوس مايرينه من امهاتهن وخالاتهن، كالطبخ والتزاور وحضانة الأطفال.. فيعشن أدوار الكبار الى أبعد حدودها..!
هكذا (ولكن ليس بالبراءة ذاتها) تبدو كوثر الأربش حينما تمارس وبدون أدنى مؤهلات دور الناقدة للموروث، ذلك الموروث الذي تشكله وتفصله كيفما تهوى بأسلوب تحاكي فيه تماماً من يشيدون بيوتا من الرمل على الشاطئ.. لكي يهدموها في نهاية الأمر.. ربما بحثاً عن نشوة الانتصار وان كان انتصارا وهميا في عملية تصاحبت مع اللهو والعبث من البداية وحتى النهاية..!
مسكينة كوثر..!
تسير بتخبط أحمق ناتج عن ممارسة دور الناقد على طريقة تشكيل بيوت الرمل وهدمها.. فهي تقدم المفاهيم وتبني الأفكار بناءً هشاً وبشكل أعوج حتى لاتواجه صعوبة في الهدم، هي لاتبحث عن نتيجة بقدر بحثها عن شواهد تدعم نتائج وضعتها في ذهنها مسبقا، حتى وان كانت تلك الشواهد وهمية او مختلقة او ربما صيغت بمبالغة كبيرة لأجل خدمة الهدف، كل ذلك لا يهم، فالمهم هو بقاء النتيجة مهما كلف الأمر. فلا مانع لديها من أن تلجأ في نهاية المطاف الى بيت شعر قرأته في احد المواقع وجدت فيه شيء من الغلو او حكاية شعبية تظهر حقد الشيعة على غيرهم.. او شتيمة ارسلها مغرد شيعي اليها! فكل ذلك يمكن ان يكون مادة دسمة تستخدم في عملية نقد الموروث على طريقة كوثر..!
تلك المسكينة قادها التخبط مؤخرا الى الإعتقاد بأن قضية كربلاء والإمام الحسين ع هي كسائر القضايا الأخرى، وبأنها مجرد موروث شيعي بسيط قابل للتشكيل والتفصيل.. وانها فكرة يمكن ان تـُـبنى معوجة لكي تهدم في النهاية.. في مقال استهلته بمقدمة حوت هذه العبارات الساذجة:
" سأورد بعض التساؤلات حول حقيقة ما يروجه الخطاب الديني الشيعي البطولي والعاطفي الذي شَرع بكل وسيلة لانتزاع انتصارٍ ما لثورة الحسين على يزيد..
.. الواقع السياسي يقول أن ثورة الحسين تم إفشالها بأكثر طرق العالم وحشية. لكن الخطاب الشيعي يتزلف الانتصار بملاحقة تبعات الثورة وهوامشها "..
في تلك العبارات تشير "ناقدة الموروث" الى ان الثورة الحسينية كانت فاشلة.. وان الشيعة وحدهم من يرون ان الحسين قد انتصر على يزيد في كربلاء، ويحاولون عبثا إنتزاع ذلك الإنتصار بوسائل متعددة..!
لها عذرها.. فثقافة الجرائد حتما لن تقودها لتكتشف ان قضية كربلاء قضية عالمية متجذرة في وجدان الأحرار بمختلف أديانهم ومذاهبهم، وان الانتصار الحسيني في كربلاء ليس محلا للجدل عند العقلاء وارباب الفكر والأدب واحرار العالم.. وها هو أدب الطف يزخر بروائع الكتاب والأدباء من غير الشيعة بل ومن غير المسلمين والتي تؤكد هذا المعنى وبمضامين متنوعة.
فمن أين لها مثلاً ان تتعرف في صفحات الجرائد على واقعة الطف كما يراها العقاد او الشرقاوي او كما يصورها جبران وجرداق وميخائيل نعيمة وبولس سلامة..!
وقبل ذلك.. قضية الطف بالذات ليست بحاجة الى الاستشهاد بأقوال وتحليلات المفكرين.. فالعقل السليم والفطرة كافيان جداً لتشخيص أبعادها. لكن "الأربش" تغافلت بسذاجة عن منظومة القيم والمبادئ التي ارسى دعائمها سيد الشهداء ع في واقعة الطف لتكون منهاجاً لكل من اراد العيش حرا في هذا العالم، والتي اجهض بها فكرة مسخ الإسلام عبر تقديمه للأجيال بنسخته الأموية المشوهة.
نعم.. ثورة الحسين ع لم تنهي الخط الأموي، لكنها منعته من التفرد والسيادة في ساحة الإسلام، بل جعلته وضيعا ازاء الخط الذي رسمه سيد الشهداء ع ليكون خياراً يلجأ اليه الأحرار في كل زمان ومكان.
وبما ان "الأربش" تُنَظِّر الى أن الشيعة يتزلفون دائما لانتصار الحسين ع، لابأس باستعراض هذه العبارة الجميلة من كتاب (السياسة الإسلامية) للكاتب الألماني ماربين، حيث يقول:
" إن حركة الحسين في خروجه على يزيد إنما كانت عزمة قلب كبير ، عز عليه الإذعان ، وعز عليه النصر العاجل ، فخرج بأهله وذويه ، الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيي به قضية مخذولة ، ليس لها بغير ذلك حياة "..
تقول الأربش:
اذا استدلينا على هزيمة يزيد بعدد سنوات حكمه فإنه يلزمنا أيضاً اعتبار اقصاء الحسين عن خلافة المسلمين بعد معاوية أول هزيمة، وافشال ثورته الهزيمة الثانية! ولنعد للسؤال الآن: هل مدة الحكم معيار للإنتصار؟ ..
في هذه النقطة تمارس كوثر هوايتها المعهودة بتقديم الفكرة بشكل أعوج بعد التشكيل والتفصيل وتهيئتها للهدم وهو غاية المنى. والا فإن الخطاب الموضوعي وليس الخطاب الشيعي كما يحلو لكوثر ان تسميه حينما يشير الى مدة حكم يزيد وقصرها النسبي فهو يتناولها من قبيل العظة والعبرة سيما كونها تجسد مصداقا وتحققاً لخطاب الحوراء زينب ع ليزيد: " وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد ".. والا بالتأكيد لايمكن استخدام مدة الحكم وبهذا المعنى السطحي كمعيار للإنتصار.. فالمفهوم العقلائي ليس بحاجة الى هذا الإستدلال.. فانتصار الحسين ع وهزيمة يزيد حقيقة حسمت في عاشوراء بعيدا عن حسابات الأرقام والأعداد.. وان عاش يزيد بعدها مئة عام بدل الأربعة..!
وفي هذا الصدد نستعرض عبارات للأديب والمفكر المصري عباس محمود العقاد (وهو بالطبع ليس شيعيا يسعى لانتزاع انتصارا للحسين ع) حيث تناول تحليل واقعة الطف في كتابه (ابي الشهداء الحسين بن علي). فيقول في معرض حديثه عن الثورة الحسينية:
" هي حركة فذة اقدم عليها رجال أفذاذ... هي ليست ضربة مغامر من مغامري السياسة، ولا صفقةُ مساومٍ من مساومي التجارة، ولا وسيلةَ متوسّلٍ ينزل على حكم الدنيا أو تنزل الدنيا على حكمه "..
تقول الأربش:
ان الشيعة يرون ان الثورات التي اعقبت واقعة كربلاء هي من قوضت حكم الأمويين، وان كانت الثورات دلالة هزيمة، فقد كان عهد الامام علي مليء بالإضطرابات والحروب..
هنا ايضا تمارس كوثر تقديم صورة مليئة بالمغالطات ذيلتها بمقارنة ساذجة بين ثورات أهل الحق على أهل الباطل في الدولة الأموية وبين خروج أهل الباطل على أهل الحق في زمن الإمام علي ع، فـ علي بن ابي طالب هو امام مفترض الطاعة عند الشيعة، وخليفة شرعي عند عموم المسلمين، بينما يزيد لم يكن هذا ولا ذاك في واقع أمره وفي نظر الكثير ممن عرفوه وخبروه.. وهكذا كانوا جميع من خلفوه وساروا على نهجه من الأمويين!
علما بأن القراءة الموضوعية للثورات المتتالية التي اشتعلت ضد الدولة الأموية بعد واقعة الطف لاتقدم تلك الثورات على أنها مجرد اضطراب سياسي كالذي تتعرض اليه سائر الدول وفق سنن السياسة، انما تقرنها دائما بالجذوة التي أشعلت تلك الثورات مؤكدة وجود وامتداد الخط الحسيني، ونحو هذا المفهوم يشير العقاد بعبارته التالية:
" لم تعمر دولة بني أمية بعدها عمر رجل واحد مديد الأجل، فلم يتم لها بعد مصرع الحسين نيف وستون سنة!.. وكان مصرع الحسين هو الداء القاتل الذي قضى عليها، وأصبحت ثارات الحسين نداء كل دولة تفتح لها طريقا الى الأسماع والقلوب".
تقول الأربش:
اذا كان الحسين هو من حفظ الدين باستشهاده، فما هو الدور الذي قام به الرسول ص؟
هنا نختصر الجواب بالإشارة الى العبارة الرائعة والمتداولة في أدب الطف: "الإسلام محمدي الوجود.. حسيني البقاء".
تقول الأربش:
اذا كان الحسين قد انقذ الدين، فما الداعي لظهور المهدي، وما الداعي لإنقاذ المنقذ؟
الإمام الحسين ع حفظ الدين ولكنه لم يملأ به الأرض.. وهذا هو دور الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف. يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)..
تقول الأربش:
لعل مقصود الشيعة من حفظ الدين هو حفظه بالنسخة الشيعية..
مغالطة كبيرة..
فثورة الحسين ع وان كان لها دورا أساس في تشكيل هوية التشيع الا ان ثمارها اكبر وأشمل من أن تقتصر على مذهب.. بل أن مبادئ تلك الثورة وقيمها السامية كان لها أثرا اخترق البعد الديني، لهذا كانت محل تقديس من قبل غير المسلمين من أدباء ومفكرين. لذا نعود ونقول بأن قيم ومبادئ الطف كانت محل إيمان وتقديس عامة العقلاء من شتى المذاهب والأديان مع اختلاف تعاطيهم مع تلك القضية وتباين إيمانهم بها، وتفاوت نفوسهم من حيث تفضيل العيش بحرية وكرامة على العيش بذل وهوان. ووفق هذه المعطيات فإننا قد نرى مسلما سنيا حر او مسيحيا أبي هو أقرب للحسين من شيعي خانع تستهويه حياة العبيد.
تقول الأربش:
الشيعة يفاضلون بين قبور أهل البيت وقبور بني أمية من حيث الزينة وكثرة الزوار ويعدون ذلك دلالة على الإنتصار والمجد، مستشهدة بأبيات من قصيدة الشاعر محمد المجذوب ( اين القصور ابا يزيد ولهوها.. )..
تجدر الإشارة الى أن الشاعر محمد المجذوب هو داعية وأديب سني من سوريا، وكان عضوا بهيئة التدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.. وحينما يقدم الشاعر المجذوب وهو الداعية السني هذه الصورة الرمزية في المفاضلة بين المآلات واستعراض عواقب الدهر بين الأضداد، والتي هي أعمق بكثير من الصورة الهزيلة التي تحاول "الأربش" عبثا تشكيلها وتقديمها بحلتها الساذجة، فهذا يؤكد ما أسلفناه سابقا بأن تقديس الثورة الحسينية وإدراك ابعادها وقيمها ليس حكرا على الشيعة، وانما هي رؤية يتشارك فيها أحرار العالم بمختلف مذاهبهم وانتماءاتهم.
ولنستعرض في هذا الصدد عبارة أخرى للعقاد، حيث يقول في معرض حديثه عن كربلاء: "فهي اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة، ولكنها لو أعطيت حقها من التنويه والتخليد، لحق لها أن تصبح مزاراً لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيبا من القداسة وحظاً من الفضيلة"..
ونختم بالعقاد أيضا.. حيث يقول في مكانة الشهداء (والحسين سيدهم):
"ان الطبائع الآدمية قد أشربت حب الشهداء وتقديس ذكرهم بغير تلقين ولا نصيحة، وانما تنحرف عن سواء هذه السنة لعوارض طارئة أو باقية تمنعها أن تستقيم معها. وأكثر ما تأتي هذه العوارض من تضليل المنفعة والهوى القريب، أو من نكسة في الطبع تغريه بالضغن على كل خُلُقٍ سوي وسجية سمحة محببة الى الناس عامة, أو من الإفراط في حب الدعة حتى يجفل المرء من الشهادة استهوالا لتكاليفها.. فيتهم الشهداء بالهوج ويتعقب أعمالهم بالنقد لكيلا يتهم نفسه بالجبن والضعة.."
ويقول أيضا:
"ليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدة وقدرة.. وحسبه أنه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين..".